بقلم: ( آمال أسعد )


 شدّتني صورةٌ لفتاةٍ تجلسُ على مقعدٍ خشبيّ في محطة قطارٍ فارغة،

وبجوارها حقيبة صغيرة، كأنّها تُرافقها بصمتٍ ثقيل.

نظراتُها منحنية نحو الأرض، حيث لا صوت، ولا سؤال،

فقط حضورٌ صامتٌ يروي قصةَ الغياب.

وكتفاها يميلان قليلًا نحو الداخل،

وكأنّها تنكمش على ذاتِها،

لتتّسع لما تشعرُ به.


لم تكن ملامحُها واضحة،

لكنّ الصمتَ كان يملأُ الإطار،

والوحدةُ كانت تفيضُ من الصورة دون أن تنطق.

رأيتُ في جلستها شبهًا بي،

بملامحٍ هادئة تُخفي الكثير،

وقلبٍ يحمل ما لا يُقال.

فكتبتُ…

لعلّي أُعيد ترتيب ذاتي أنا أيضًا،

كما تفعل تلك الفتاة التي تجلس في عزلةٍ ليست هروبًا… بل بداية.


<< وحدي على رصيفِ الغياب >>


بلغتُ النقطة التي لا يُخيفني فيها السقوط،

ولا يُغريني فيها الامتدادُ نحو أحد.

صرتُ أعي أنّ اليد التي لا تُمسكني حين أحتاجها،

لا تستحقّ أن أفتّش عنها حين أستقيم.

أنا لستُ في حاجةٍ إلى من يرمّمُ صوتي…

فقد تعلّمتُ كيف أكونُ صدًى لا ينكسر.


ولأجل هذا كلّه، جلستُ على هذا الرصيف،

لا أطلبُ انتظارًا، ولا أرتقبُ وداعًا.

جئتُ أُفرّغ ما تبقّى منّي من صمتٍ ثقيل،

وأعيد بناءَ نفسي من أطلالِ وجعٍ لم يُرمّمه أحد،

بعيدًا عن صخبٍ لم يُنصِف صوتي،

وبعيدًا عن الذين لم يعرفوا يومًا

كيف يُمسكون قلبي دون أن يُسقِطوه.


وهناك، على المقعد البارد، استقرّ بي وجعي،

واتكأتُ إلى فراغٍ يُشبهني،

وما بين ملامحي الساكنة،

كان يضجُّ داخلي زحامٌ من الأسئلة الموجعة.

حقيبتي بجانبي، لا تحملُ سوى أطيافٍ باهتة،

وخيباتٍ طُويت بعناية،

وأحلامٍ خفيفة، هشّة،

كأنّها خُلِقت لتتناثر… لا لتُزهِر.


ولأنّ هذا الثقل لم يأتِ من فراغ،

كان لا بدّ من انسحاب…

لا هروبًا، بل انسحابًا يليقُ بمن أنهكته التكرارات.

فأنا لم أهرب،

بل انسحبتُ في صمتٍ عميق،

لا يشوبه ضعف، بل يفيض قوّةً ونُضجًا.

كان قراري صامدًا، نابعًا من رغبةٍ في النجاة،

وابتعادًا عن قيودٍ لم تَعُد تُشبهني.

انسحبتُ لأستنشق هدوءًا لا يُشترى،

لأحتضن نفسي التي تاهت طويلًا في صخب الآخرين.

فقد آن للقلبِ أن يُحرّر نفسه…

من أماكن لم يعُد له فيها صوت.


ومن هذا الانسحاب، نشأت تلك الغربة…

غربةٌ لا تتعلّق بالمكان، بل بالمعنى،

حين تكونُ حاضرًا بين الناس، وغائبًا عن نفسك،

حين تتكلّم ولا يُصغي إليك أحد،

وتبتسم كي لا يلمسوا انكسارك،

لكنّ أحدًا لا يرى خلف عينيك… سوى الصمت.


وتتعمّق الغربة أكثر…

حين تكتشف أنّك لم تَعُد تنتمي لأماكن كنتَ تظنّها وطنك،

وأنّك تتوهُ في طرقٍ تعرفها جيدًا،

لكنّها لم تَعُد تعرفك.


ارتفع صدى القطار من عمق المسافة،

وامتدّت السكّة كأنّها تُغريك بالرحيل،

تتحرّك العجلات في اتّجاه لا يحملني،

ولا ينتظرني،

ولا يُشبهني.


كلّ شيءٍ حولي يوحي بالانتقال…

إلّا قلبي.

فقد كان ساكنًا،

كأنّه وجد أخيرًا مكانه،

رافضًا أن يُساق مع التيّار،

رافضًا أن يُغادر ليبدأ تكرارًا جديدًا

لما انتهيتُ منه منذ زمنٍ طويل.


لم يكن في موقفي خوف،

بل وعيٌ هادئ بأنّ ليس كلّ تحرّك عبور،

وأنّ أحيانًا، في البقاء… نجاتك.


ومع هذا الوضوح، يبقى الشعورُ الأصعب:

أن تُراجع نفسك كلّ ليلة،

وتُدرك أنّك منحتَ أكثر ممّا ينبغي،

وصبرتَ أكثر ممّا يليقُ بقلبٍ رقيق.

ثم تنهض، ليس بانكسار،

بل بيقينٍ أخير:

لقد آن أوان اختيارك لذاتك.


وهكذا، حين مضى القطار…

لم أكن على متنه،

لكنني بدأتُ الرحلة التي لطالما أجّلتها:

رحلتي إلى داخلي،

إلى قلبي،

إلى صوتي الذي لم ينجُ من العالم… بل نجا بي منه.


سأتركُ على هذا الرصيف ظلّي القديم،

بكلّ ما فيه من خيباتٍ مؤجّلة، وأملٍ مكسور،

وصوتٍ لم يُنصِفه أحد.

وسأمضي…

خفيفةً من الأحمال التي لم تكن يومًا لي،

ثقيلةً فقط بقناعاتٍ تشبهني.

لن ألتفت،

فما خُذل لا يُستعاد،

وما انكسر في الطريق،

لم يعُد صالحًا للسير معي.


أمضي، لا لأنني انهزمت،

بل لأنني أخيرًا… عرفتُ من أكون.

وعرفتُ أن النجاة الحقيقية،

ليست في الوصول…

بل في أن تعود إلى نفسك، وتبقى


بقلم: ( آمال أسعد )

فلسطين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حين يرتعش القلب **بقلمي / خديجة شما khadija Shamma

يا كاتب للشعر.. // بقلم الشاعر حافظ لفته

هو ضائعٌ.. بقلم..حكمت نايف خولي