بقلم الشاعر...د عبد الحميد ديوان


 من أعلام الشعر العربي الحديث

محمود درويش

شاعر المقاومة المناضل

قامة شعرية سامقة تركت بصمتها في جبين التاريخ المعاصر كأحد أهم أعلام الشعر.

وقد شكل شعره سفراً في سجل النضال ضد العدو الصهيوني ، فكان ثورته الشعرية علامة مضيئة في مسيرة النضال الفلسطيني.

إنه محمود درويش ذلك الشاعر العربي الفلسطيني الذي كرس حياته للنضال من اجل وطنه ، واعتبره قضيته الأولى والأخيرة.

ومع أن محمود درويش شاعر عاطفي بالمعنى العميق لهذه الكلمة ، لكن عاطفته تلك كانت تنصهر في أتون الحب لوطنه وأرضه ، فعشقه للطبيعة والإنسان إنما هو تعبير عن قضيته الأساسية التي يناضل من أجلها .ألا وهو الوطن المغتصب.

ونجد ذلك متجسدا في قصائده التي نرى ظاهرها الحب للحبيبة ، ولكننا إذا ما تأملناها بعمق فإننا سنجد أن هذه الحبيبة ليست إلا فلسطين.

يقول تشهيت الطفولة فيك

مذ طارت عصافير الربيع

تجرًد الشجر

وصوتك كان ياما كان

يأتي من الآبار أحياناً

وأحيانا ينقطه لي المطر

نقيًا هكذا كالنار

كالأشجار .. كالأشجار ينهمر

الحبيبة في هذه القصيدة كما ذكرنا هي الوطن ، وحبها يحفر في أعماقه جرح لا يتوقف نزيفه إلا مع حرية هذا الوطن.

ولنعد إلى البداية

ولد محمود درويش سنة 1941 في قرية البرده شرق عكا . وفي عام 1948 احتلت عصابات الكيان الصهيوني القرية وهجر أهلها منها إلى لبنان .  وكان شاعرنا واحداً من هؤلاء المهجرين وهو طفل في السابعة من عمره . لكنه عاد إلى فلسطين مع عمه بعد عام واحد . وعن هذه الفترة يقول (( يخيل لي أنني في ليلة التهجير وضعت حداً لطفولتي بمنتهى العنف . فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت .." ويتابع " ( منذ  تلك الأيام التي عشت فيها في لبنان لم أنسى إلى الأبد تعرفي على كلمة الوطن ) . 

ونحن نجد في تلك الكلمات التي ذكرها شاعراً يتلمس في طفولته الأولى معالم الوطن الذي لم تمحه الأيام والاحتلال والقهر من ذاكرته أبداً . 

وقد عانى الشاعر من التشرد والملاحقة والسجن الشيء الكثير , ولكن ذلك لم يفت في عضده . بل إن إيمانه بالوطن ازداد رسوخاً وصلابة في فكره وقوى شاعريته التي امتدت عبر الوطن والعالم , فأصبح بذلك شاعر المقاومة دون منازع . 

وقد مر شعر محمود درويش بمراحل عديدة . كان أولها مرحلة الطفولة الفنية التي تمثلت بديوانه الأول ( عصافير بال أجنحة ) عام 1960

وكان انتقاله من هذه المرحلة إلى المرحلة الثانية سريعاً , تمثلت بديوانه ( أوراق الزيتون ) الذي خطا فيه خطوة واسعة نحو النضج الشعري 

وفي المرحلة الثالثة اكتمل نضوجه الشعري . وظهر ذلك في دواوينه الثلاثة وهي ( عاشق من فلسطين 1966 – وآخر الليل 1967 والعصافير تموت في الجليل ) وفي هذه المرحلة نجد في شعر شاعرنا خصائص فنية متميزة . أهمها أنه لم يعد يعبر عن تجاربه تعبيراً مباشراً بل بدأ يلجأ إلى الرمز والاسطورة والقصة الشعرية للتعبير عنها , ومع ذلك فإنه لم يفقد وضوحه الفني . ذلك لأنه شاعر مرتبط بالجماهير العربية في الأرض المحتلة , وهو يريد أن يصل شعره إليها . 

إن كان شعر محمود درويش يتصل بموضوع أساسي واحد هو وطنه وجرحه فلسطين . وفي ذلك يقول الاستاذ رجاء النقاش ( إن الرموز المختلفة التي لجأ إليها محمود درويش تساعد الفنان الشاب على الوصول بشعره إلى درجة عالية من التأثير الوجداني والفني دون أن تجعل من شعره عالماً قائماً بعيداً عن الفهم . 

إن محمود درويش هو شاعر فلسطين شاعر الأرض المحتلة – شاعر المقاومة يسكن في القصيدة وتسكن القصيدة في نفسه , ويشيد وطناً من شعره , يرسم حدوده على خطوط الطول الورقية , ويبسط أرضه ويرفع سماءه , ويشكل تضاريسه وينفخ فيه مناطه الأسيوي الحار , ونسائم لياليه البحرية , فتتشكل السطور دروباً ومنازل والكلمات حصى وذرات تراب . 

إننا نجد في محمود درويش عالماً متكاملاً من الحب والعشق للوطن فهو دائم التغني بحب وطنه ويرى فيه المستقبل الذي لابد أن يرسمه أبناؤه وهو يدعو في كفاحه من أجل وطنه فلسطين إلى التشبث بالأرض والتعلق بترتبها مناشداً أبناء وطنه بأن لا يبرحوا أرضهم وأن يحتضنوها بقلوبهم وأرواحهم فيقول 

هذه الأرض جلد عظمي وقلبي  

فوق أعشابها يطير كنحله 

إنها أرضه وأرض آبائه وأجداده , وليس لأحد من الدخلاء حق بذرة من خيرها . 

وينظر بعمق إلى الأرض المباركة في نفسه وعقله , فيراها ملء العين والنظر ويسميها . 

 نسميك عنبر , وأرضك سكر 

 وقلبك أخضر 

وإني طفل هواك

على حضنك الحلو 

   أنمو وأكبر

ولقد دفع الوفاء للوطن والإخلاص للديار , والتعلق بالأرض شاعرنا الثائر لأن يطبع معظم قصائده بهذا الطابع الوطني 

 وطني حبنا هلاك 

 والأغاني مجرحه 

 كلما جاءني نداك 

 هجر القلب مطرحه 

 وتلاقي على رباك 

 بالجروح المفتحه 

 لا تلمني ففي ثراك 

 أصبح الحب مذبحه 

ويتحدى المحتلين الغزاة بأنفة وكبرياء مبيناً لهم أنهم لن يستطيعوا أن يفصلوه عن أرضه , أو يحولوا بينه وبين بلاده فيقول : 

 علقوني على جدائل نحله 

 واشنقوني ....... 

 فلن أخون النخلة 

 هذه الأرض لي 

 وكنت قديماً 

 أحلب النوق  

 راضياً وموله 

ويمضي شاعرنا المقاوم في تمديه للصهاينة بصلابة وجرآة هازئاً بما يلاقيه في سجنه من أغلال وقيود , وروحه تتألق ثائرة تتدفق حيوية واندفاعاً متفائلة بالنصر :  

 وطني يعلمني حديد سلاسلي 

 عنف النسور ورقة المتفائل 

 ما كنت أعرف أن تحت جلودنا 

 ميلاد عاصفة وعرس جداول 

وهو مؤمن أشد الإيمان بأن النصر لابد أن يكون في نهاية المطاف من نصيب هذا الوطن الحبيب . وأن الاحتلال إلى زوال مهما حاول البقاء مارس كل صنوف العنف والقتل والتدمير , وفي هذا يقول : 

 يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل 

 لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل 

 فيرون مات , ولم تمت روما 

      بعينيها تقاتل   

 وحبوب سنبلة تجف 

 ستملأ الوادي سنابل 

وهكذا نجد أن محمود درويش تتجلى فيه كل معاني الحب للوطن والتضحية في سبيله , وأن شعره لم يكن إلا تجسيداً لذلك الحب وعرفاً بجميله وصورة كاملة من صور النضال من أجل حريته . 

وبعد فإن دوحة الشعر لم يتوقف زهرها عن اطلاق عبيره المتدفق . فغياب محمود درويش عن عالمنا أفقدنا أحد أعلام شعر المقاومة أمر لا ننكره أبداً ولكن هذا النهج المتدفق لشعر المقاومة لازال يعطينا شعراء يماثلون شاعرنا الدرويش ويتابعون مسيرة النضال بشعرهم الذي يخترق ساحة المقاومة كما الرصاصة التي تقتل الغدر والعدوان . وأذكر من أعلام شعرائنا المتابعين طريق المقاومة بكل صلابة وعزيمة شاعرنا العربي الفلسطيني محمود علي السعيد . الذي يذكرنا بفقيدنا محمود درويش واحراره وابداعه المتميزين .


د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاعر و تاجر... الشاعر..زياد الحمصي

رحيلٌ بلا وداع... الشاعرة.. سلوى احمد

قصيدة ( الدَّارُ داري ) ..بقلمي حازم قطب