عبقرية اللغة العربية.. الشاعر...د عبد الحميد ديوان


 عبقرية اللغة العربية


من خلال دراستنا لاصول اللغة العربية واستقراء النظريات اللغوية التي قدمها لنا علماء اللغة العرب والغربيون تبين  أن اللغة العربية هي أم اللغات جميعا وانها الهية المنشأ وذلك لقوله تعالى(وعلم آدم الأسماء كلها) ويقصد بذلك اللغة بشكل عام والله اعلم وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولغة اهل الجنة العربية) ولأن القرآن نزل للناس كافة لقوله تعالى( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )

وقد أكد هذه النظرية دراسة بريطانية حديثة قام بها معهد الأبحاث البريطاني ونشرت على مواقع التواصل الاجتماعي(الفيس بوك).

ولأن هذه اللغة المباركة مكتملة كما ذكر المستشرق الفرنسي رينان عندما استغرب من كمال هذه اللغة وفوقها على بقية اللغات مع انها وجدت في منطقة صحراوية مغلقة كما ذكر(علماً أنه كان من أشد المتعصبين للعربية وأهلها).

إن مجرد معرفتنا ان اللغة العربية هي إلهية المنشأ يتبدّى لنا السبب في كمالها وتميزها وعبقريتها.

فاللغة العربية تتميز بعبقرية فاقت كل اللغات التي عرفها الإنسان. وتبدو هذه العبقرية في خصائص تميزت بها عن غيرها،سنوردها تباعاً في هذا البحث.

ولعلي قبل البدء بالحديث عن خصائص اللغة العربية سأبدأ بالحديث عن قيمة هذه اللغة عند أصحابها، فقيمة العربية عندهم أعظم وأشد من قيمة بقية اللغات عند اصحابها وذلك ان القول والتفكير والعمل أجزاء متلازمة في الحياة العربية فقول العربي هو نتاج تفكيره، وتفكيره بدء لعمله كما ذكر د . محمد المبارك في بحث ( عبقرية اللغة العربية ) . ويؤكد ذلك ما ذكره الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى عندما رأى أن الإنسان إنما يتكون من نصفين النصف الأول ( لسانه ) أي لغته والنصف الثاني فؤاده ويعني مشاعره يقول زهير : 

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

                                                فلم يبق إلا صورة اللحم والدم


ويؤكد مالك بن سلمة العبسي هذه المقولة بقوله : 

وفي الصمت ستر للعيي وإنما  صحيفة لب المرء أن يتكلما

فهو يرى أن السكوت يخفي شخصية المتحدث , ولا تظهر هذه الشخصية إلا عندما ينطق ونجد مثل هذا المنطق عند العالم الفرنسي ( هنري بار ) الذي يؤكد  ( أن اليد واللسان هي الانسانية ) .

وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) فالقول أولاً ثم العمل . وأوضح مثال على هذا ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي أن الصحابة الذين كانوا يقرؤون القرآن أمثال عبد الله بن مسعود , وعثمان بن عفان , وعمر بن الخطاب  . كانوا إذا تعلموا من النبي (ص) عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. 

ويرى ابن خلدون أن ( الملكة الحاصلة للعرب هي أحق الملكات وأوضحها بياناً عن المقاصد ).

ورأى ابن فارس أنها ( أفضل اللغات وأوسعها إذ يكفي دليلاً على ذلك أن رب العالمين اختارها لأشرف رسله , وخاتم رسالاته , فأنزل بها كتابه المبين . ولذلك لا يقدر أحد من التراجم أن ينقل القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى كما نقل الانجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية , وترجمت التوراة والزبور , وسائر كتب الله عز وجل إلى العربية . والسبب في ذلك يعود إلى أن العجم لم تتسع لغتهم في المجاز اتساع العرب .

ونحن هنا لسنا بصدد تفنيد قول ابن فارس عن موضوع ترجمة الإنجيل والتوراة لأن ما حصل أصلاً هو تداول لهذه الكتب السماوية في إطار اللهجات العربية المتعاقبة كما بينا سابقاً . والسبب في ذلك أن تلك الكتب لم يحفظها قومها من التحريف فنالها ما نال  من النقل والزيادة أو النقصان .

إن دراسة اللغة العربية هي خير وسيلة لمعرفة الشخصية العربية في خطوطها وملامحها , وسماتها عبر العصور , وهي السبيل إلى التمييز بين الجوهر الأصيل والزائف الطارئ من هذه الشخصية.

ولعل أهم ما يمكن أن يظهر أهمية اللغة العربية , ومكانتها , وأنها الأهم بالنسبة لنا , والتي يجب أن نعتني بها وندرسها لمعرفة عبقريتها وخصائصها هي أنها أداة التعبير عن الإرادة الإلهية , فكانت هذه الألفاظ العربية التي تألفت منها آيات القرآن الكريم.

ولقد تجلت عبقرية اللغة العربية في مجموع آثارها التي ظهرت خلال العصور , وفي فنونها وآدابها وأساليبها البيانية , وفي طريقة نظم كلامها وتركيبه , وفي مفرداتها وألفاظها . وكانت خصائصها المنطقية والفكرية تتبدى في ذلك كله . ولهذا كان الكلام عن عبقريتها بشكل عام واسعاً نحتاج في دراستنا له إلى زمن طويل ,وكتب كثيرة . ولكننا في هذه العجالة سنكتفي بدراسة بعض هذه الخصائص من زاوية الكلمة العربية أولاً , ومفرداتها واشتقاقاتها ثانياً .

تتمتع العربية بثراء عظيم قلِ نظيره في معظم اللغات , وليس أدل على اتساعها من استقصاء أبنية الكلام , وحصر تراكيب اللغة , وهو ما وصل إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه ( العين ) فقد ذكر أن عدد أبنية العربية المستعمل منها, والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار هو 12.305.412 أي اثنا عشر مليوناً وثلاثمئة وخمسة آلاف وأربعمئة واثنا عشر كلمة في حين يرى بعض الباحثين أن المستعمل منها لا يزيد على ثمانين ألف كلمة. 

وكذلك نجد القلقشندي يعتبرها ( اللغة التامة الحروف الكاملة الألفاظ إذ لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه , ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادته , وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية  

ويذكر السيوطي أن  لغة العرب هي أفضل اللغات وأوسعها , ويورد مزايا لها يراها دليلاً على أفضليتها منها :

كثرة المفردات : والاتساع في الاستعارة والتمثيل ( وهذا يدخل في باب البلاغة واستعارة المحسوس للمتخيل).

التعويض : وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة مثل : إقامة المصدر مقام فعل الأمر كـ ( فصبراً في مجال الموت صبرا  )

وأقاموا الفاعل مقام المصدر مثل قوله تعالى : ( ليس لوقعتها كاذبة ) أي تكذيب وأقاموا المفعول مقام المصدر أيضاً مثل قوله تعالى : (بأيكم المفتون) أي الفتنة أو إقامة المفعول مقام الفاعل مثل قوله تعالى: (حجاباً مستورا) وكذلك فك الادغام مثل (اشدد عليهم). أو تخفيف الكلمة بالحذف كقول شوقي : 

بطل البداوة لم يكن يغزو على  تنك ولم يك يركب الأجواء

واللغة العربية ثراء بالمعاني عبر تغير الحركات في الكلمة الواحدة .

ففي قولنا : ( مِفْتح –بكسر الميم ) دلالة على الآلة التي يفتح بها وكلمة ( مَفْتح – بفتح الميم ) لمكان الفتح .

وتمتاز اللغة العربية عن غيرها من اللغات أيضاً بوجود عنصر مشترك بين أفراد المجموعة الواحدة , فالألفاظ العربية كالعرب أنفسهم تجتمع في قبائل تربطهم لحمة من النسب والقربى ونجد أن الكلمة العربية تحمل طابع النسب ذاته مما يدل على أصلها وقرابتها وهذا ما نسميه في اللغة بالاشتقاق وهو توالد الكلمات في معاني مختلفة من جذر واحد يسمى ( الجذر اللغوي )والأمثلة على ذلك كثيرة منها : لو أخذنا فعل (جمع ) لوجدنا أن الكلمات التالية : ( مجمع – اجتماع – اجتماعي – الجمع – استجماع – الاجماع ) كلها أخذت من ذلك الجذر فهو أصل تلك الاشتقاقات . وكل كلمة تؤدي معنى مختلفاً عن غيره إلا أنها تجتمع بشكل عام تحت ( الجمع ) . 

وقد تبتعد الصلة بين المعنى الأصلي للمادة الأصلية للكلمة وتفريعاتها حتى تكاد تخفي الصلة بينها ولكن الصلة الصوتية( أي الاشتراك ) في الحروف الأساسية لا تخفي على القارئ أبداً , وهذه الحروف ( الجذرية ) هي التي توصلنا إلى معرفة الأصل . وذلك بتقدير المراحل الضائعة التي مرت بها الكلمة من المعنى الأصلي القديم إلى المعنى الطارئ الحديث.

وذلك ما حاول أحمد بن فارس في معجمه ( مقاييس اللغة ) فقد شارك جميع أصحاب المعاجم العربية في جمع الكلمات المشتقة من مادة واحدة في باب واحد, وزاد عليهم بتتبعه لمعاني مفردات الباب الواحد وإرجاعه إلى أصل واحد أو عدة أصول من المعاني . فمثلاً قوله في مادة            ( ضرب). 

الضاد والراء والباء أصل واحد ثم يستعار ويحمل عليه من ذلك :ضرباً . إذا أوقعت بغيرك الضرب . ويستعار منه ويشبه به الضرب في الأرض : للتجارة وغير ذلك من السفر .قال تعالى ( وإذا ضربتم في  الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) . وتعني في الآية ( ذهب ) ويقال لمن يسرع في السير   ( ضرب ) أيضاً والطير الضوارب : الطالبة للرزق ( فهي تضرب في الأرض ) . ويقال رجل مضرب : أي شديد الضرب ومن باب الضرب أيضاً يقال هذا من ضرب فلان أي من صيغته . والضريب يعني المثل فكأنهما ضُرِبا ضرباً واحداً ( أي صيغا ) .

وقد لاحظ ابن جني أن من خصائص اللغة العربية دلالة الحروف على المعاني , حين قال :( وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها ترتيباً , وتقديم ما يضاهي آخره أوسطه , سوقاً للحرف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب . فحرف (التاء ) إذا جاء ثاني الكلمة دل على القطع مثل : ( بت الحبل : بتر العضو) وحرف الغين في أول الكلمة يدل على الاستتار والظلمة والخفار مثل ( غابت الشمس – غاض الماء – غطس السباح ... الخ ) و حرف النون في أول الكلمة يدل على الظهور و البروز مثل : ( نفث – نفخ – نبت الخ .)  .

ونجد كثيراً من علماء الغرب من يعترف بخصوصية اللغة العربية وعظمتها وكمالها . فالمستشرق ( أرنست رينان ) كما ذكرنا في البداية لاحظ خصوصية اللغة العربية في نشأتها ويسرها وثباتها .

ورغم تعصبه الشديد للغته واللغات الهندوأوربية عموماً رأى أن اللغة العربية بدت فجأة على غاية الكمال , وأن هذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب تفسيره .

ويقول العالم الفرنسي ( مارسي ) في مجلة التعليم الفرنسية ( 1930 )  ( من السهل جداً تعلم أصول اللغة العربية . فقواعدها التي تظهر معقدة لأول نظرة هي قياسية ومضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يصدق فذو الذهن المتوسط يستطيع تحصيلها بأشهر قليلة وبجهد معتدل ) أما الدكتورة ( آنا ماري شيمل ) المعجزة العلمية الألمانية والتي وضعت المقدمة للترجمة الألمانية لمعاني القرآن الكريم فقد عدت اللغة العربية لغة موسيقية للغاية, وقالت : ( لا أستطيع أن أقول إلا أنها لابد أن تكون لغة الجنة ).  

ونجد عند علماء اللغة المحدثين حماسة مماثلة للقدماء في رصد لغتهم فاللغة العربية في نظرهم أرقى اللغات العالمية , وهي أيضاً من البلاغة في أرقى موضع بين اللغات , وتمتاز بمرونتها وسعة اشتقاقها بالإضافة إلى دقة التعبير . فنجد مثلاً لكل لحظة من لحظات الليل معوالنهار اسماً يدل عليها مثل البكرة (للصباح الباكر ) والضحى ( لما قبل الظهيرة ) والغدوة , والظهيرة , والقائلة (القيلولة) لما بعد الظهر والعصر والأصيل ( ما قبل الغروب ) والمغرب والعشاء.

ثم يقسمون الليل أقساماً . فالهزيع الأول من الليل يعني ( بدايته ) والهزيع الوسط , ثم الموهن ( منتصف الليل وما بعده ) والسحر , والفجر , والشروق ....الخ .

هذه الدقة العجيبة في تسمية الأشياء وتصنيفها لا نجدها في أية لغة من لغات البشر سوى العربية . وإذا كانت بعض اللغات تعتمد إضافة مقاطع على مفرداتها للحصول على معان جديدة . فإن الأمر في لغتنا يختلف كثيراً وهو أكثر سهولة لأن الحصول على معاني مختلفة من الكلمة لا يحتاج إلى زيادة حرف أو اكثر . بل إن تحريك الأصل بالحركات فقط يعطينا تلك المعاني المختلفة مثل ( كتب = تعني القيام بفعل الكتابة مع معرفة فاعلها . وكُتِبَ = تعني فعل الكتابة مع جهل من قام بالكتابة .... الخ .ونجد أن تغير مباني الكلمات يغير في دلالتها , ومع كل تغيير يبرز معنى جديد مثل قلم – قلمان – شرب – شراب – شارب – مشروب – وتزاد بعض الحروف في الأفعال الثلاثية المجردة والرباعية , فتأتي الزيادة بمعنى جديد , إذ يتحول اللازم إلى متعدٍّ والمتعدي إلى لازم مثل: كرم – أكرم – كرّم .

وإذا جاء على وزن ( فاعل ) فإنه سيفيد عند ذلك المشاركة نحو لعب = لاعب (أي شارك غيره في اللعب ) . وكذلك يشتق من الأصل أوزان جديدة فتأتي لنا بمعانٍ أخرى جديدة نحو : علم = من العلم وعالم = من يمتلك العلم – ومعلوم= المدرك.

ويؤكد الأب لويس شيخو أن اللغة العربية كاملة متكاملة ثرية في مفرداتها وغنية في معانيها فيقول : ( فإن من يتتبع آثار لغتنا العربية يراها في كل آن مزدانة بخواص اللغات الكاملة من حيث مفرداتها وعباراتها وتراكيبها  وأساليبها , كأنها ظهرت بادئ ذي بدء تامة العدة كاملة الأهلية , وإذا قابلنا بين اللغة الشائعة في يومنا مع لغة أقدم الشعراء كامرئ القيس والنابغة لا نكاد نرى بين اللغتين اختلافاً يذكر. اللهم إلا في استعمال بعض ألفاظ لغوية شعرية أو في اتخاذ بعض التعابير الجديدة دلالة على المعاني المستحدثة كما هو دأب اللغة الحية .

وبالإضافة إلى ما ذكر فإن علماء اللغة العربية لاحظوا أن لغتهم تكتسب في كثير من مفرداتها معاني جديدة أضيفت إلى معانيها الأصيلة . فقد استعمل بعد الإسلام مفردات لم تكن موجودة في عصر ما قبل الإسلام من مثل العقل والروح والنفس والمجد والصلاة والصوم والزكاة والقرارة.....الخ .

كما اختصت اللغة العربية بسمة جديدة هي التوليد الذاتي ويقصد به استخدام لفظ عربي قديم بمعنى جديد .وقد ذكر السيوطي في المزهر ذلك بقوله ( ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفظهم ) .

ولكن المحدثين رأوا في هذا التوليد خصيصة من خصائص اللغة تتميز بها عن سائر اللغات وعرفوا ذلك بقولهم ( هو لفظ عربي البناء أعطي في اللغة الحديثة معنى مختلفاً عما كان العرب يعرفونه ) ونضيف إلى ذلك أن تلك الألفاظ تحتفظ أيضاً بمعناها القديم , ولكن التطور الحضاري ووجود عناصر لم تكن معروفة قديماً اقتضى منهم أن يولدوا من تلك الألفاظ القديمة معاني جديدة . من أمثال : السيارة ( والتي كانت تطلق على القافلة قديماً ) والطيارة , والهاتف , والمذياع وعلم الاجتماع والاقتصاد ... وغير ذلك .

ولا ننسى التوليد الاشتقاقي المعروف في لغتنا والذي ذكرناه سابقاً وهو أخذ كلمة من كلمة أخرى مع المحافظة على قرابة بينهما لفظاً ومعنى ( مما جعل هذه اللغة يتصل أولها بآخرها في نسيج خاص من غير أن تذهب معالمها ).

أما النحت فقد عرف عند العرب منذ زمن بعيد , وهو وسيلة من وسائل نحو اللغة , وفي هذا النوع من التوليد تدمج كلمتان أو اكثر في كلمة واحدة تتضمن كل منها معنى ملحوظاً في المصطلح المنحوت , ولجأ إليه العرب للاختصار وهذا النوع من التوليد سماعي لا يقاس عليه من مثل : ( حوقل = أي قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ) ( وبسمل   =  بسم الله الرحمن الرحيم  ) ...... الخ . 

وهناك القياس. وهو حمل مجهول على معلوم وحمل معلوم على المنقول.  وأجازه النحاة ورأوا فيه طريقة يمكن الركون إليها للتوسع في معاني المفردات الجديدة الداخلة على اللغة العربية كما رأى أبو عثمان المازني في قوله ( ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. 

ومن أهم خصائص اللغة العربية ( ظاهرة الإعراب ) التي تميزت بها اللغة العربية وقد لاحظ ابن فارس أن العلاقة بين الإعراب والمعنى وثيقة. فبالإعراب نعرف موقع الكلمة في الجملة , ومن خلاله نميز بين الفعل والاسم والفاعل والمفعول به والمضاف والنعت , وكذلك الفارق بين التعجب والاستفهام والتمييز بينهما . وليس أدل على علاقة الإعراب بالمعنى من النظر في القرآن الكريم والحديث الشريف والأدب بصفة عامة. فنجد أن المعنى يتوقف على الإعراب مثل قوله تعالى ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) فلولا حركة الإعراب لظن القارئ أن الخشية هي من الله تعالى بينما عند التشكيل يظهر المعنى الأصلي وهو خشية العلماء بشكل خاص من الله لأنهم ذوو معرفة وفهم .وكذلك في قوله تعالى : ( أن اللهَ بريء من المشركين ورسولُه ) فقد قرأ أحدهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم      ( ورسوله ) بالكسر فسمعه أحد الأعراب وقال : إذا كان الله يتبرأ من رسوله فأنا أتبرأ منه أيضاً إلا أن الصحابة صححوا له تشكيل الكلمة وأفهموه أن الله ورسوله يتبرأ من المشركين . 

ونرى ظاهرة الإعراب والاهتمام بها كبيرة منذ العصر الجاهلي . فقد أخطأ أحد الصحابة في قراءة آية فقال رسول الله ( ص ) أرشدوا أخاكم فقد ضل وقد أعطى الإعراب للمتكلم الحرية في تعبيره بما يخدم المعنى , فنرى التقديم والتأخير كظاهرة إعرابية تعطي المعنى وضوحاً وقوة في كثير من المعاني ففي قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قدم المفعول به على الفعل فجعلنا ننتبه إلى المراد من العبادة والاستعانة التي لا تكون إلا بالله. وكذلك في أوائل الكلمات , فالحركات فيها هي التي تقيد المعاني مثل (أكل – أُكل – شرب – شُرب - ... الخ) .

ومن المزايا التي تفردت بها اللغة العربية أيضاً استخدام ما يسمى         (المثنيات ) التي لا تفرد من مثل ( الثقلان = ويقصد بها الأنس والجان – والجديدان = وهما الليل والنهار  - والقمران – والعمران – والمشرقان والمغربان .... الخ.

وقد لاحظ الأستاذ عباس محمود العقاد أن للحروف العربية صفات تتوزع في مدرج صوتي واسع أكثر من أي لغة عرفتها البشرية مع ان أبجديتها ليست أكثر من غيرها من اللغات ولكن الحركات فيها جعلت تلك الحروف تتجاوز في معانيها كل معاني اللغات الأخرى ضمن نطاق حروفها . 

ومن صفات لغتنا أيضاً أن لكل حرف فيها صوتاً لا يتغيّر باختلاف موقعه من الكلمة , فنحن نرى أحرف الهجاء في كثير من اللغات لا تمثل جميع الأصوات فيها فالانكليزية مثلاً تعرف (الثاء) ولكن ليس هناك حرف واحد يرمز إلى هذا الصوت فيلجؤون في كتابتها إلى استعمال ( th  ) وكذلك حرف الذال فإنه يرد في كلمة father   أن th  أصبحت في الكلمة ( ذالاً ) وغيرها كثير . 

وخلاصة القول فإننا نرى أن العربية استمدت قوتها من قوة بيانها وسعة معانيها و محافظتها على نسقها اللغوي البليغ والذي جعل الله سبحانه وتعالى يختارها لغة لكتابه العزيز فتصبح اللغة بهذا التفرد الإلهي لغة معجزة خالدة باقية ما بقيت السموات والأرض . 


د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاعر و تاجر... الشاعر..زياد الحمصي

رحيلٌ بلا وداع... الشاعرة.. سلوى احمد

قصيدة ( الدَّارُ داري ) ..بقلمي حازم قطب