.ثقافة الجهل المقدس ... بقلم...الدكتور الفاضل الكثيري


 .ثقافة الجهل المقدس 

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا


فنجهل فوق جهل الجاهلينا


ونشرب إن وردنا الماء صفواً


ويشرب غيرنا كدراً وطيناً


إذا بلغ الفطام لنا صبي


تخر له الجبابر ساجدينا


البيت الأول هو البيت الذي اجتهد جهابذة فقهاء اللغة والمعاجم في تفسير الجهل بمعنى الغضب، واشتقوا منه تفسيرهم، مفهوم العصر الجاهلي وسبب تسميته جاهلياً، بأن نزعة الغضب كانت غالبة عليه قبل أن يهذبها الإسلام!!


وبعد سنوات من دراسة الأدب العربي وترديد ما تعلمته «آلياً»، وبعد تنبه مباغت لأثر جرثومة الشرف العربي أو الغضب العربي، يتبادر إلى الذهن أسئلة لم تناقش في قاعات الجامعات ولا كتب التراث أو الكتب التي لفت لف التراث: لماذا دبر الملك عمرو بن هند تلك المكيدة السخيفة لغريمة بن كلثوم؟ وكيف عرف الأخير أن ما تعرضت له أمه ابنة المهلهل يستحق أن يقطع كل تلك الرؤوس لأجله، وهو المتوسد مقعده بين كؤوس الخمر؟ ولم خلد العرب تلك القصيدة وتلك الحادثة التي تحولت، في حقيقة بنيتها، من جريمة قتل إلى جريمة حرب؟ وكيف استسغنا نحن طلاب الأدب، أكرر «الأدب» تلك المعاني الطافحة بالكراهية والغضب والانتقام وتضخم الذات واستصغار الآخر التي ضجت بها المعلقة وقصة «فتك» بن كلثوم بابن هند؟


ويجدُ المرء نفسه وهو يجِدُّ في الأسئلة، متورطا في تفسير مفهوم العروبة الذي ورثناه من الأساطير الجاهلية. وهو تفسير يقوم على أفضلية «الحسب والنسب» والتميز العرقي لا لشيء سوى الوهم بجودة الجينات العربية، وتفردها عن باقي خلق الله. وسنجد ذلك في جميع القصائد الجاهلية التي تباهت بالحروب القبلية طويلة الأمد أو تباكت عليها، حيث تلتهب بالمباهاة القبلية ومعاني الفخر على الآخر وهجائه، واستمر ذلك حتى في قصائد الحروب السياسية بين الأمويين وخصومهم والعباسيين وأعدائهم. وقد تكون أسوأ النماذج التي خلفتها الثقافة العربية في الفخر والهجاء قصائد النقائض التي كانت تبادل فضائح بين الفرزدق وجرير في قوالب شعر.


إنها ثقافة ذات جذور وامتدادات وليست شعراً مرسلاً نغرق في غيبوبته وننتشي فخراً بما نظنه كان، وهو لم يزل وقائماً في حروبنا العربية وخلافاتنا السياسية والثقافية غير المبررة. نظرتنا التاريخية والآنية غير الموضوعية لأنفسنا، هي أحد الأسباب التي تجعلنا نتعايش بسلام غريب مع واقعنا المزري الذي يعلن بكل صراحة بأننا في ذيل قائمة الأمم وأننا مازلنا نعيش بعقلية أجدادنا الجاهلية.

الدكتور الفاضل الكثيري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاعر و تاجر... الشاعر..زياد الحمصي

رحيلٌ بلا وداع... الشاعرة.. سلوى احمد

قصيدة ( الدَّارُ داري ) ..بقلمي حازم قطب