لغتنا الجميلة.. بقلم الشاعر...خالد خبازة


 لغتنا الجميلة

في الشعر .. قواعده و أحكامه

البحث الثامن

في الشعر المطبوع  و المصنوع

جاء في كتاب " العمدة في آداب الشعر و آثاره " لابن رشيق القيرواني :

الشعر ..

مطبوع و مصنوع 

المطبوع

هو الأصل الذي وضع أولا ، و عليه المدار .

و المصنوع ،

و ان وقع عليه هذا الاسم ، فليس متكلفا تكلف أشعار المولدين ، لكن وقع في هذا النوع  ، الذين سموه صنعة من غير قصد و لا تعمُّد، وانما بطباع القوم عفوا ، فاستحسنوه ومالوا اليه بعض الميل ، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره ، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح و التثقيف .

و لم يكن العرب لينظروا في أعطاف شعرهم ، بأن يجنسوا ، أو يطابقوا ، أو يقابلوا ..  قيتركوا لفظة للفظة ..  أو معنى لمعنى ، كما فعل المحدثون ،. انما كان نظرهم في فصاحة الكلام و جزالته ، و بسط المعنى و ابرازه ، و اتقان بنيته الشعرية ، و احكام عقد القوافي ، و تلاحم الكلام بعضه ببعض ، حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة ، حسن نسقه الكلام بعضه على بعض. .  في قوله من الوافر :

 

 فلا و أبيك ما ظلمت قريـع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا 

ولا و أبيك ما ظلمت قريـع ... و لا برموا لذاك و لا أسـاءوا

بعثرة جارهم أن ينــعشوها ... فيغبر حــــوله نعــــــم و شاء

فيبني مجــــدهم و يقيم فيها... و يمشي ان أريد بها المشــاء

وان الجار مثل الضيف يغدو... لوجهتــه .. وان طال الثواء

و اني قد علقت بحبل قــوم ... أعانـــهم على الحسب الثراء

و كذلك قول أبي ذؤيب الهذلي يصف حمر الوحش و صائدها من قصيدته المشهورة ..

من الكامل و القافية من المتدارك ،

فهي أعجب تصنيعا للشعر و التي مطلعها :

أمن المنون و ريبها تتفجع ... و الدهر ليس بمعتب من يجزع

يقول :

فوردن و العيـــــــوق رابئ الــ ... ــضرباء خلف النجم ..  لا يتتلـع 

فكَرَعْنَ في حجراتِ عذبٍ باردٍ ... حَصِبِ البطاح تغيب فيه الأكـرع

فشربــــــن ثم سمعن حسا دونه ... شرف الحجاب و رب قرع يقرع

فنكرنــه..  فنفرن فامترست به ... هوجاء هادية ..  و هادٌ جــرشع

فرمى ..  فأنفذ من نجود عائط ... سهما فخرّ .. و ريشه  متصمـــع

فبدا له أقراب هــــــذا رائــــغا  ... عجــلا.. فعيّث في الكنانة يرجع

فرمى فألـحق صاعديا مطحرا ... بالكشح فاشتملت عليــــه الأضلع

فأبــــدَهن حتوفــــــهن فهارب ... بدمائه .. أو بــارك متجعجــــع 

 

و لو نظرنا لرأينا هذا النسق الجميل و الرائع كيف أطرد له ، و لم ينحلّ عقده ، و لا اختل بناؤه ، و لولا ثقافة الشاعر ، و مراعاته اياه ، لما تمكن له هذا التمكن . 

و استطرف العرب ما جاء من الصنعة في البيت و البيتين في القصيدة بين القصائد يستدل بذلك على جودة شعر الشاعر ، و صدق حسه و صفاء خاطره ،

. فأما اذا كثر ذلك ،

فهو عيب يشهد بخلاف الطبع ، و ايثار الكلفة ..

كما يتأتى في أشعار حبيب ( أبي تمام ) و البحتري و غيرهما ،.

و قد كانا يطلبان الصنعة ، و يولعان بها .

فأما حبيب ، فكان يذهب الى حزونة اللفظ ، مع التصنيع المحكم طوعا و كرها .

أما البحتري ، فكان أملح لفظا و أحسن مذهبا في الكلام . يسلك منه دماثة و سهولة ، مع احكام الصنعة و قرب المأخذ ، لا يظهر عليه كلفة و لا مشقة .

و ما ُ يعلم شاعر ، أكمل و لا أعجب تصنيعا من شعر ابن المعتز ،

فان صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع الا للبصير بدقائق الشعر . 

كذلك فان مسلم بن الوليد ( صريع الغواني )..

اخذ بالصنعة في شعره

الا أنه أكثر سهولة من شعر حبيب ، و أقل تكلفا .

و لم يكن في الأشعار المحدثه قبل مسلم ، الا النبذ اليسيرة ، و هو يعتبر زهير المولدين .. اذ كان يبطئ في صنعته ، و يجيدها .

و يقال :

أول من فتق البديع من المحدثين ،

هو بشار بن برد ، و ابراهيم بن هرمة ،

ثم اتبعه مقتديا بهما ،

كلثوم بن عمرو ( العتابي ) ، و منصور النمري ، و أبو نواس ،

و اتبع هؤلاء حبيب الطائي و البحتري ، و عبدالله بن المعتز ، الذي انتهى علم البديع و الصنعة اليه ، و ختم به .

و يقال :

ان البيت ، اذا وقع مطبوعا في غاية الجودة ، ثم وقع في معناه بيت مصنوع في غاية الحسن ، لم تؤثر عليه الكلفة ، و لم يظهر عليه التعمل .. كان المطبوع أفضلهما .

و كان الجاحظ يقول : 

" كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ، و لا ساقطا سوقيا ،

فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيا ، الا أن يكون المتكلم به بدويا أعرابيا .

فان الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي ، كما يفهم السوقي سوقي الكلام . "

قيل  : و أنشد رجل شعرا ـ فاستغربه القوم ، فقال :

و الله ما هو بغريب ، و لكنكم في الأدب غرباء . 

و قال رجل لآبي تمام بعد انشاده شعرا ، و أراد تبكيته :

لماذا لا تقول من الشعر ما يفهم ؟!

فأجابه :

لمَ لا تفهم من الشعر ما يقال ؟ .

فأبكته .

و قال البعض :

ان أبا تمام كالقاضي العدل ، يضع اللفظة موضعها ، و يعطي المعنى حقه ، بعد طول النظر و البحث عن ابينة ( أدلة ) ..

أما أبا الطيب ، فكالملك الجبار ، يأخذ ما حوله قهرا و عنوة ، أو كالشجاع الجريء ، يهجم على ما يريده ، لا يبالي ما لقي ، و لا حيث وقع .

و كان الأصمعي يقول :

زهير و النابغة ، من عبيد الشعر ، .

يريد أنهما يتكلفان اصلاحه ، و يشغلان به حواسهما و خواطرهما .

و كذلك كان طفيل الغنوي ، و كان يسمى " محبرا " لحسن شعره .. و روى له زهير .

و منهم الحطيئة و النمر بن تولب ، و كان يسميه أبو عمرو بن العلاء " الكيس " .

و كان بعض الحذاق بالكلام يقول :

قـُــلْ من الشعر ما يخدمك ، و لا تقل من الشعر ما تخدمه .

و من أجمل ما قيل في هذا الموضع و أبلغه .. قول الأحيمر السعدي في وصيته .. من الطويل و القافية من المتدارك :

 

من القول ما يكفي المصيب قليله ... و منه الذي لا يكتفي الدهر قائله

يصد عن المعنى فيترك مانــــحا ... و يذهب في التقصير منه يطـاوله

فلا تك مكثــــارا تزيد على الذي ... عنيت به في خطب أمر تـــزاوله

*****

خالد  ع . خبازة 

عن كتاب " العمدة .. " لابن رشيق القيرواني 

و بعض من كتب التراث


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاعر و تاجر... الشاعر..زياد الحمصي

رحيلٌ بلا وداع... الشاعرة.. سلوى احمد

قصيدة ( الدَّارُ داري ) ..بقلمي حازم قطب