بقلم : ( آمال أسعد )
امرأةٌ وسطَ الرِّكامِصَمتُها نيرانٌ تخبو… لكنّها لا تنطفئ،
وعَيناها مِرآتَانِ لبحرٍ هائجٍ من الأسى.
لا تصرخ، لكنّها تَرسُمُ بأطياف الألم خطوطًا على جدران الصمت العالمي،
وكُلّ نظرةٍ منها بركانٌ يُخفي انفجاره،
كَأنّها لهيبٌ مُحتَجزٌ في عمق قلبٍ مكسور،
يُرسل صدى وجعه في فراغٍ لا يُصغي،
في عينيها احتراقُ عُمر، وفي وَقفَتها وجعُ وطنٍ بأكمله.
كانت نظراتها تُناجيني كأنها تستغيث بقلمي:
{ آمال… دوّني وجعي قبل أن يُدفن في ظلال النسيان. }
وها أنا أستجيب…
سأكتبُ باسم نساءٍ لا تُعدّ ولا تُحصى،
باسم نساءِ غزّة اللواتي صارت دموعُهُنّ ترجمةً لمأساةٍ لا تمحوها رياحُ الزمن،
بعد أن قدّمن فلذات أكبادهنّ في حربٍ لم تُبقِ لهنّ سوى الدموع.
نساءٌ حملن في صدورهنّ حرقة الفقد،
وصمت الألم الذي لا ينقطع.
هذا صوتُهُنّ… وهذا وجعي،
وقلمي سيكون سفيرَ دموعِهِنّ إلى من بقي في قلبه ذرةُ إنسانية،
وفي روحه نبضُ ضمير.
{{ وَجَعٌ في هَيئةِ فاجعة }}
لم يكن المشهدُ عاديًّا،
ولا وقوفُها فوق الركام يُشبه وقوفَ أحد.
كُلُّ شيءٍ فيها كان ينهار…
إلّا وهجَ عينيها المأسورتين في صمتٍ قاتل،
تتشبّثان بظلال الذاكرة رغم السواد،
مُقيّدتان في فراغٍ لا يُرحم،
وترفضان الانكسار أو النسيان.
صرخت…
لكنّ صوتها تحطّم قبل أن يصل،
طاف بأرجاء النفس، موجعًا بلا صخب،
كأنّه تكسّر في هواءٍ خاوٍ، وغرق في بحر صمتٍ دامس لا يُجيب ولا يرحم.
نادَتهم:
يا أحمد… يا يوسف… يا سارة…
كُلُّ اسمٍ نطقتْه كان جنازةً جديدةً تُساق إلى قلبها.
لم تكن تلك النداءاتُ لأطفالٍ فقط،
ابتلعتهم الأنقاضُ في غارةٍ صاعقةٍ
قضت على طفولتهم بلا رحمة،
وحكمت عليهم بالإعدام الفوري مع سبق الإصرار والترصّد.
وفي كسرة صوتها كان رجاءٌ أعمق…
وجعُ امرأةٍ نُزِع منها كلُّ شيءٍ،
حتى ظلُّ رفيق العمر،
ذاك الذي لطالما قال لها:
عودتي وَعْدْ ،
ذاك الذي لم يتأخر يومًا عن حضنها،
ولا خان أمانَ العمر معها.
سقط شهيدًا كما تمنى…
لكنه تركها تواجه معركةً داميةً على بيتٍ دُمِّر وأُبيد،
حتى غدا صمته صرخةً لا يسمعها سوى الخراب.
نادته بين الركام كما نادت أبناءها،
لكن صدى صوتها تلاشى في الفقد،
ولا دفء خطواته عاد إليها.
كان الغياب واحدًا،
لكنّ الفقد مضاعف…
وكأن في صدرها حربين:
حربٌ على البيت الذي سُوِّيَ بالأرض فوق أجساد أبنائها الغارقين في سباتٍ عميق،
وأخرى على الروح التي لم تعد تجد من تسند إليها تعبها.
وبين أنين الصمت الذي لا ينقطع،
وبين رحاب ذاك الفراغ المفجع،
تتسرب الذكريات كظلالٍ بين أنقاضها،
ملابسهم المبعثرة، ألعابهم الصامتة،
وعطرهم الذي لا يزال يتسلّل من بين الحجارة،
كهمس الريح البارد فوق الخراب…
كأن البيت الذي هُدم للتو،
ما زال ينبض في زوايا ذاكرتها،
وحكاياتهم الصغيرة تهمس في أرجاء الفراغ،
توقظها من غفلة الألم،
فتشدّ على قلبها المتعب، وتبقيه حيًا… رغم كل شيء.
في خضم هذا الحضور الغائب،
وسط الدفء الذي لا يُلمس،
كانت تُقلب البقايا بعينين لا تكلان،
تنقّب عن يدٍ صغيرة تشبثت بالحياة،
عن صوتٍ صغيرٍ يقول: أنا بخير يا أمي…
لكن الصمت كان يصفعها،
وهي تصرخ في فراغ، لينزوي صوتها ويموت قبل أن يجد من يسمعه.
وبين كل هذا الخراب، وذاك الفقد،
لم تعد ترى شيئًا يُطمئنها أنّ الحياة ما زالت ممكنة…
فكل شيء انكسر،
حتى السماء فوقها،
بدت وكأنها تهوي معها شيئًا شيئًا،
فارغة من الرحمة،
مثقلة بالحطام،
تمطرها بغصص لا تجف،
كأنها انشقت على قدر الوجع الذي في صدرها.
ويا لها من فاجعةٍ تلك التي عاشتها!
ليست فاجعة الأجساد… بل فاجعة الألم،
حين ينهض الوجع من تحت الركام على هيئة امرأةٍ،
فقدت كل شيء،
وبقيت وحدها تصرخ في وجه العالم:
خذوا كل شيء… فقط أعيدوا لي أولادي.
وفي نهاية هذا المشهد،
لا يبقى في القلب سوى غصّةٍ لا تذوب،
كأنّ الصورة لا تريد أن تنتهي،
وكأنّ المرأة ما زالت فوق الركام،
تنادي وتنتظر…
رحمةً تأخّرت كثيرًا،
ليس لأنها تطلبها،
بل لأنّ الحياة سرقت منها حتى الحقّ في أن تطلب شيئًا.
وأمام أطفالٍ يموتون تحت الركام،
ويذوبون جوعًا في مجاعةٍ مخططة،
أصرخ مع كلّ أمٍّ غزّية:
أين أنتم يا عرب؟!
أين أنتم من وطنٍ يختنق؟!
في غزة، صار الموتُ خبزهم اليومي،
وصار رغيف الخبز حلمًا بعيدًا،
حتى بات الطفل يساوي حياته بكسرة طعام.
وهنا،
أستحضر صرخة ( توفيق زياد ) التي تُفَتّت صَلابة الحجر قبل أن تبلُغ الأذن:
“أعطي نصف عمري للذي يجعل طفلًا باكيًا يضحك”…
فمن يعطي عمرهُ اليوم،
ليعيد لطفل غزة ضحكته،
ويعيد للإنسانية قلبًا لا يعرف الموت،
بعد أن صار رغيف الخبز في غزة حلمًا بعيدًا،
وصارت الحياة نفسها… مجرّد معجزة؟؟
بقلم : ( آمال أسعد )
فلسطين
تعليقات
إرسال تعليق